بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد/
فعن ابن عبّاس رضي اللّه عنه قال: كان عمر بن الخطّاب رضي اللّه عنه يدني ابن عبّاس، فقال له عبد الرّحمن بن عوف: إنّ لنا أبناء مثله، فقال: إنّه من حيث تعلم، فسأل عمرُ ابنَ عبّاس عن هذه الآية: {إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر:1]، فقال: أجل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أعلمه إيّاه، فقال: ما أعلم منها إلّا ما تعلم.
¤ عن محمّد بن سيرين قال: كنت في حلقة فيها عبد الرّحمن بن أبي ليلى، وكان أصحابه يعظّمونه، فذكر آخر الأجلين، فحدّثت بحديث سبيعة بنت الحارث عن عبد اللّه بن عتبة، قال: فضمز لي -أي: أشار إليه بالسكوت- بعض أصحابه، قال محمّد: ففطنت له فقلت: إنّي إذا لجريء إن كذبت على عبد اللّه بن عتبة، وهو في ناحية الكوفة، فإستحيا وقال: لكنّ عمّه لم يقل ذاك، فلقيت أبا عطيّة مالك بن عامر فسألته، فذهب يحدّثني حديث سبيعة، فقلت: هل سمعت عن عبد اللّه فيها شيئا؟ فقال: كنّا عند عبد اللّه، فقال: أتجعلون عليها التّغليظ ولا تجعلون عليها الرّخصة؟ لنزلت سورة النّساء القصرى -أي: سورة الطلاق- بعد الطّولى -أي: سورة البقرة- {وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ الطلاق} [الطلاق:4].
¤ عن عيسى قال: سمعت الشّعبيّ يقول: إنّما كان يطلب هذا العلم من إجتمعت فيه خصلتان: العقل والنّسك، فإن كان ناسكا ولم يكن عاقلا، قال: هذا أمر لا يناله إلّا العقلاء، فلم يطلبه، وإن كان عاقلا ولم يكن ناسكا، قال: هذا أمر لا يناله إلّا النّسّاك فلم يطلبه، فقال الشّعبيّ: ولقد رهبت أن يكون يطلبه اليوم من ليست فيه واحدة منهما، لا عقل ولا نُسك.
¤ من أخبار الأذكياء: جاء رجل إلى سليمان بن داود عليهما السّلام وقال: يا نبيّ اللّه إنّ جيرانا يسرقون إوزّي فلا أعرف السّارق، فنادى الصّلاة جامعة، ثمّ خطبهم وقال في خطبته: وإنّ أحدكم ليسرق إوزّ جاره، ثمّ يدخل المسجد والرّيش على رأسه، فمسح الرّجل رأسه، فقال سليمان: خذوه فهو صاحبكم.
¤ ومن أخبار القاضي إياس: أنّ رجلا قصد الحجّ فإستودع إنسانا مالا، فلمّا عاد طلبه منه فجحده المستودع، فأخبر بذلك القاضي إياساً، فقال: أعَلِمَ بأنّك جئتني؟ قال: لا، قال: فعد إليّ بعد يومين، ثمّ إنّ القاضي إياسا بعث إلى ذلك الرّجل فأحضره، ثمّ قال له: اعلم أنّه قد تحصّلت عندي أموال كثيرة لأيتام وغيرهم وودائع للنّاس، وإنّي مسافر سفرا بعيدا، وأريد أن أودعها عندك لما بلغني من دينك وتحصين منزلك، فقال: حبّا وكرامة، قال: فاذهب وهيِّئ موضعا للمال، وقوما يحملونه، فذهب الرّجل وجاء صاحب الوديعة.
فقال له القاضي إياس: امض إلى صاحبك، وقل له ادفع إليّ مالي، وإلّا شكوتك للقاضي إياس. فلمّا جاء قال له ذلك، فدفع إليه ماله وإعتذر إليه، فأخذه وأتى إلى القاضي إياس وأخبره.
ثمّ بعد ذلك أتى الرّجل لطلب الأموال الّتي ذكرها له القاضي، فقال له القاضي بعد أن أخذ الرّجل ماله منه: إمض لشأنك لا أكثر اللّه في النّاس من أمثالك.
¤ قال الأبشيهيّ: قد يخصّ اللّه تعالى بألطافه الخفيّة من يشاء من عباده، فيفيض عليه من خزائن مواهبه رزانة عقل، وزيادة معرفة، تخرجه عن حدّ الإكتساب، ويصير بها راجحا على ذوي التّجارب والآداب.
¤ قال الأبشيهيّ أيضا: يستدلّ على رجاحة عقل الرّجل بأمور متعدّدّة منها: ميله إلى محاسن الأخلاق، وإعراضه عن رذائل الأعمال، ورغبته في إسداء صنائع المعروف، وتجنّبه ما يكسبه عارا، ويورثه سوء السّمعة.
¤ قال عليّ بن عبيدة: العقل ملك، والخصال رعيّة، فإذا ضعف عن القيام عليها وصل الخلل إليها، فسمعه أعرابيّ فقال: هذا كلام يقطر عسله.
¤ قيل: من بيّضت الحوادث سواد لِمّته -أي: شعر الرأس المجاوز لشحمة الأذن-، وأخلقت التّجارب لباس جدّته -أي:ثيابه الجديدة-، وأراه اللّه تعالى لكثرة ممارسته تصاريف أقداره وأقضيته كان جديرا برزانة العقل ورجاحة الدّراية.
¤ حدّث الشّعبيّ قال: جاءت امرأة إلى عمر بن الخطّاب رضي اللّه عنه فقالت: أشكو إليك خير أهل الدّنيا إلّا رجل سبقه بعمل أو عمل مثل عمله، يقوم اللّيل حتّى يصبح، ويصوم النّهار حتّى يمسي، ثمّ أخذها الحياء، فقالت: أقلني يا أمير المؤمنين. فقال: جزاك اللّه خيرا فقد أحسنت الثّناء، قد أقلتك، فلمّا ولّت، قال كعب بن سور: يا أمير المؤمنين! لقد أبلغت إليك في الشّكوى.
فقال: ما اشتكت؟. قال: زوجها، قال: عليّ بالمرأة وزوجها، فجيء بهما.
فقال لكعب: إقض بينهما. قال: أأقضي وأنت شاهد؟ قال: إنّك قد فطنت ما لم أفطن إليه.
قال: فإنّ اللّه يقول: {فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ} [النساء:3]، صم ثلاثة أيّام وأفطر عندها يوما، وقم ثلاث ليال وبت عندها ليلة. فقال عمر: لهذا أعجب إليّ من الأوّل، فرحله بدابّة وبعثه قاضيا.
¤ سرق من رجل خمسمائة دينار، فحمل المتّهمون إلى الوالي، فقال الوالي: أنا ما أضرب أحدا منكم، بل عندي خيط ممدود في بيت مظلم، فادخلوا فليمرّ كلّ منكم يده عليه من أوّل الخيط إلى آخره، ويلفّ يده في كمّه ويخرج، فإنّ الخيط، يلفّ على يد الّذي سرق، وكان قد سوّد الخيط بسخام، فدخلوا فكلّهم جرّيده على الخيط في الظّلمة إلّا واحدا منهم، فلمّا خرجوا نظر إلي أيديهم مسودّة إلّا واحدا، فألزمه بالمال، فأقرّ به.
وَآخِرُ دَعْوَانا أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
المصدر: موقع الشيخ سعيد عبد العظيم.